يقول الشيخ صالح آل الشيخ “الإفصاح بما في النفس، وما مر على الانسان من ذكريات وإلى أخره، ليس بالسهل!”، وكان الشيخ قد سئل في ثلوثية المشوح بتاريخ (04 / 04/ 1443هـ) : لماذا علماء نجد لا يكتبون مذكراتهم؟ فقال: “قلوبهم من ارضهم، وأرضهم من الحصى”، ثم أسترسل في رده: “أهل نجد يميلون على الكتمان الشديد، ويأنفون من ذكر أحوالهم؛ لأنها تُنتقد، ويستحضرون النقد، دائماً يستحضرون أن هذا سيعيبني بكذا”، ويكمل: “غازي القصيبي كان يتعجب من قصيدة العالم والاديب عبدالله بن إدريس في زوجته؛ ويقول كيف يكون نجدي يقول مثل هذه القصيدة فيها من معاني الحب والوفاء والصلة والذكرى… فكان يتعجب منها ويقول هي جيدة للغاية! وكونها من نجدِ تكون غاية في الجودة”.
في مرحلة الثانوية ألمحت لوالدي رغبتي الانتقال للرياض حيث يسكن خوالي هناك وجدتي من والدتي طرفة بنت عبدالرحمن الراشد أل أبو عليان، وبعد مشاورات بسيطة وافق على ذلك -بحكمة منه- وبعد أن رأى المصلحة تقتضي العيش هناك واكمال الدراسة.
الرياض مدينة صاخبة (حيّة) تختلف فيها لغة وحركة وحيوية وجراءة الشباب كثيراً عن شباب المدن والقرى الأخرى، مجالات الدراسة متنوعة، بيئة المدارس مختلفة، وحيث الساحات الرياضية (الشعبية)، والملاعب، والمرافق الترفيهية، والأسواق، والشوارع الفسيحة، والاحياء الناشئة.. كثرة تكوين الصداقات أمر شائع في الرياض، وغالب قاطنيه من الأسر متوسطة، وأعلى من المتوسط، والغنية، وتظهر نعمتها في المأكل والمشرب والملبس، اظهار محمود، لا تكتمها، كثير من أسر نجد انتقلوا إلى الرياض بداية التحضر والتمدن في السبعينات الميلادية (1970م)، طلباً للتجارة، والفرص الوظيفية المتهيأة، فسكنوا على مراحل، وسنوات متتالية، بداية في وسط الرياض بمناطق الصالحية، وشارع الريل، وحلة القصمان، ثم الملز، والربوة، والروضة ثم الاحياء المستحدثة والمتجزأة باتجاه الشرق حي الريان وحي الروابي.. وغيرها مما لا مجال ذكره.
في حي الربوة وأحياء الريان والروابي الناشئة حيث يحيطها -مجتمعة- ملاهي الربوة (الحكير)، والساحة الشعبية، وشارع الدوران ثلاثين الربوة، ومتوسطة مجاهد، وثانوية الفاروق، ومستشفى التأمينات (رعاية الرياض حالياً)، وملعب الحمراني، وملاعب أراضي الفكرية، ومدارس النموذجية، وشارع الدوران ماجد (النموذجية)، وقصر الأمير عبدالمجيد، ومصلى محطة هيف (حيث عادة يتعبد شباب الأحياء بمصليات محطات الوقود)، وكانت طفرة البنى التحتية ما بعد مشاريع عهد الملك خالد، والمشاريع التي حُسنت وأخرى انشأت بعد ست او سبع سنوات من عهد الملك فهد.. والمرحلة التي عايشتها ذروة شبابي وحيويته في الرياض؛ جاءت في منتصف فترة حكم الملك فهد -أو أكثر من المنتصف- حيث كثرة الصداقات والتعارف.
إذا ذكر (حي الروابي) طرأ ذكر (حي الريان) مباشرة، حيث يفصلهما وكما نقول بالعامية (قطعة رِجل) شارع احمد بن حنبل شمالاً، وشارع عنيزة غرباً، فكان التعارف بين شباب الحييّن شائع دون تحفظات، بحكم صلة القرابة بين كثير من القاطنين في الحيين، ومسمى العوائل معروفة وعريقة ومتساوية من جميع النواحي تعليميا وثقافيا ومادياً مما يطمئن الاباء على ابناءهم، ولربما سكن حي الريان أسماء (واصلة) تقريباً وأخرى (غنية)، ومن تلك الأسماء (عبدالله النعيم) أمين مدينة الرياض السابق، وربما -غير متيقن- على هذا الأساس أصبح (شارع عنيزة) جذوره ممتدة، يفصل الريان والروابي، حيوي، وشريان حياة.. عكسه (شارع بريدة)؛ الذي بالكاد عُرف السنوات العشر الأخيرة.
يحيط بمربع الحي الذي اقطنه في بيت خوالي؛ مستشفى التأمينات وسوره الطويل على الجهتين الغربية والجنوبية بأكملهما، وشارع أحمد بن حنبل على جهته الشمالية، وتتنوع بيوت الحي من أسر عريقة، يجمعها المسجد الذي بناه الشيخ عبدالله العيدان (جامع الصفا)، ويؤمه (محمد المنيعي) شيخ سلفي وقور من أندر الأئمة التزاما بالإمامة قولا وفعلا، صوته عادي، لكن قراءته مجودة، وصلاته خفيفة (وليست سريعة) والبون شاسع، ويربط أسر الحي طابع الألفة والمحبة والبساطة -كما هي كل الأحياء- حيث عوائل الغنام والدخيّل والمتروك والمحيميد والظاهري والعقيّل والرشيد والخليفة والعيسى والمبيريك والعزام والبكري والعنيزان وبيوت العيدان الأربع، وعوائل من عتيبة ومنهم أسرة فهد العضياني.. وجميعها أسر طيبة المعشر، حسنة الخلق.
في ذلك المربع صادقت العديد من الأقران، أحدهم (أحمد محمد المتروك)، أبو وليد، كنا مراهقين في عز ذروة وحيوية الشباب، (وأحمد) عوضني عن صداقات افتقدتها في بريدة؛ عبدالله الربيش، وأحمد العقيل، وجمعات و استراحات (حوشة) الضاحي والفايزية..
أحمد هذا سابق عمره، مثقف، مُطلع، ذكي، متفوق دراسياً، خلوق جداً، لمّاح، مقبول.. (كان) يملك شخصية مختلفة، وصفات عدة؛ أثرت كثيراً في حياتي (إلى اليوم)، حَمل مسؤولية جسيمة على عاتقه (تربية اخوته الذكور الصغار، ورعاية اخواته الاناث لاحقاً) بعد وفاة والده، وزواج والدته، كانت ظروفنا النفسية والاجتماعية والمادية متشابهة، كنت كثير (التبرم)، وأحمد يداري (انتفاخاتي)، يتفوق علي بالحلم والأناة والكرم، رغم ظروفه إلا أنه متعايش مع واقعه، ويسلي نفسه بالمقالب، دائماً مبتسم، ذو ضحكة مميزة، وروح عاطفية، ومشاعر جياشة، ويملك معارف وصداقات -بعضهم يكبره سناً- لعقليته المنفتحة والمختلفة، توفي رحمه الله بعمر مبكر.
يبعد (منزل الفريح) عن بيت جدتي حوالي (500) متر مشياً على الاقدام، نحتاج أن نقطع -أنا وأحمد- شارع أحمد بن حنبل الحيوي، ما إن نصل لبيت الفريح إلا ونجد روح أخرى، في ملحقهم الصغير الحجم، كبير الاحتواء، حيث زياد منغمس مع جهاز الحاسب الالي والقنوات الفضائية، وأديب له اهتمامات أخرى، ويكبرنا طارق سناً، وعصام وتركي أصغر سناً منا.. مختلفون بالاهتمامات، متفاوتون في التحصيل التعليمي، لكن تأدبهم وروحهم وابتسامتهم واحدة، كذلك ثقافتهم، لم أكن اتسأل ذلك الوقت من اين مستمدة!
بقي ثلاثة من الفريح! أسمع بهم ولم التق بهم!!
وليد يعمل بالاتصالات السعودية، واذا بحارتكم او بالحارة المجاورة شخص يعمل (بالاتصالات السعودية) أو (الخطوط السعودية) فانتم أصحاب حظ، من يعمل في القطاعين -ذلك الحين- وحتى سنوات لاحقة طويلة؛ فلديه واسطة كبيرة، يسهلون عليكم أمور كثيرة، كبينة هاتف قرب منزلكم، خطين فوق طاقة الكبينة، تلفون ثابت خلال أسبوع، رقم هاتف مميز، بيجر وجوال برقم موحد.. والموظف الذي تعرفه في الخطوط السعودية يقدم لك ما لا يخطر على بالك من خدمات، تركب درجة أعمال حتى لو أنت غير مؤهل للركوب على جناح الطائرة، يخطف لك مقعد شخص أخر، لا يوجد شي عندهم ما فيه إمكانية، والعكس أذا حظك مقرود.
محمد، يتردد أسمه كثيراً على ألسن اخوته لكني لم اره أبداً، حينما تجلس في ذلك الملحق تجد اخوته يتحدثون بشتى أنواع العلوم والمعرفة والمعلومات، وتجد أصناف متنوعة من الإصدارات خاصة الكتب، علمت فيما بعد أن محمد اخاهم الأكبر سناً، متخصص بالكتب والمكتبات، وهو أول شخص أعرفه تخصصه الجامعي علم المكتبات (التخصص الذي أخترته لنفسي فيما بعد)، كان لمحمد هيبة عندي -داخل نفسي- ربما فارق السن، وفارق العلم، فأحياناً تتحاشى الجلوس مع شخص ذو معرفة خوف أن تهفو أو تخطئ أو تتفلسف، عموما كان قليل الحضور ولم أره تلك الفترة سوى مرة.
الثالث (عبدالله الفريح) والدهم، هو كذلك لم أره بحياتي، على كثرة ترددي عليهم، ربما لمحته فقط (لمح)، شكله يختلف عن شكل معظم كبار السن (من معارفي) حيث اللحى الطويلة أو تلك الدقون المشذبة بلطف، أما عبدالله الفريح تجمع ملامحه الهيبة والوسامة، شنب، وعيون برّاقة، وقد أخذ من تلك العيون المتلألئة جميع أبناءه.
عبدالله محمد الفريح؛ مواليد البكيرية، شخص متعلم، ومعلم، ومدير مدرسة لسنوات عدة، حتى لقب (بالمدير)، له اثناء مسيرته اسهامات إدارية، ورياضية، ومشاركات اجتماعية.. وقد زالت كل العلامات والتساؤلات حول سر اختلاف الأدب، والتربية، والفكر والتفكير، وكثرة النقاشات، وطرح الأسئلة في شتى العلوم، والمجالات الاجتماعية، والثقافية، والمعلوماتية، والفكرية، في ذلك الملحق الطولي الضيق إلا من طيب الأنفس واتساع الصدور!! إنها شخصية الأب (المنفتحة)، هذا الانفتاح الفكري والمعرفي الذي تشكل لهذا الرجل مع مواقف الحياة، ومجالس الرجال، والحركة والحل والترحال، وطلب العلم، والعمل المؤسسي والتعاوني “وهيبة والده، واحتواءه وتقبيله له حتى وهو كبير”، وتجارب أخرى علمية وعملية واجتماعية وتربوية، ظننته منعزل وله (ربعه) الخاصين، وجلساته الخاصة، ومن قريب علمت أنه كان يجتمع مع أولاده بشكل يومي، بل ان منزله (ملفى لأقاربه وخاصة اهل القصيم)، هذه الشخصية (المنفتحة والمنضبطة)، وهذه النفس الكريمة، يحتاجها كل فرد واسرة وبيت ويتمناها المجتمع.
أتحدث عن أطباع ماضٍ أطلعت على بعض رواياته، وواقع أراه، وسوالف فضفضة عابرة يهمسها أصدقاء وزملاء، عايشوها مع احباب وغالين من الأباء (الكايدين) على أنفسهم، وعلى أبناءهم، يفتقدون -بقصد ودونه- الحد الأدنى من الثقة، الحوار، النقاش، التشاور.. حكى لي صديق يعمل كاتب إداري بمحكمة عامة، وقد صادف والده داخلها، ومعه أوراق يطلب مساعدة من أخرين!!
توفي أبو محمد (عبدالله الفريح) رحمه الله في (20 رجب 1439هـ)، وكان قد كتب وصيته قبل وفاته بـ (11) عاماً، في (25 شوال 1428هـ)، وأطَلَع جميع أولاده الذكور عليها، وبعمله هذا جمع كل الوسائل المحمودة لكيانه، ولأسرته، وللمجتمع.. النفسية والمادية والتربوية، واكملها بتوثيق شرعي، وعمل مؤسسي، ووضع للوقف نظاره..!! نظاره!! جديدة تلك اللفظة الشرعية (علَّي)، ونطق ظاءها يحتاج خفة، لكن العمل بمضمونها ثقيل يحتاج ثقات.
لم يقف الاعجاب هنا! ففي (رمضان من العام 1443هـ) أعلن محمد الفريح عن صدور كتاب من جمعه وتحريره، بعنوان (من أفواه الرواة: السيرة التربوية والاجتماعية للوالد عبدالله بن محمد بن عبدالمحسن بن محمد الفريح “الملقب بالمدير”) أي بعد (4) سنوات من وفاة والده، وتتكون السيرة من (576) صفحة، مقسمه إلى (6) اقسام، أولها مجموعة تعريفية لبعض الأقارب والأنساب والأعلام ذوو العلاقة بصاحب السيرة، وقصص ومرويات أخذت معظم صفحات الكتاب، ووثائق ومراسلات، وحوار إذاعي سابق لعبدالله الفريح مفرغ نصياً، والوقف والوصية، والقسم الأخير مجموعة من الصور والشهادات، نشر وتوزيع العبيكان.، طبعته الورقية فاخرة، ومتوفر بطبعات متوافقة رقمية والكترونية.
سيرة تربوية واجتماعية، وكتاب نفيس، مليء بالمواقف والحكم، قرأته من غلافه لغلافه.. وأعترف، لأول مرة أشرع بقراءة كتاب من الصفحات ما قبل الأخيرة، في الصفحة (487) هذه الوصية “فإنني قد أوقفت المنزلين الواقعين بحي (الريان) جنوب طريق خريص بمدينة الرياض… ومجموع مساحته (575 متراً مربعاً) وقفاً مؤبداً ومنجزاً من حينه.. وقد وقفت المنزلين خاليين من الدين والرهن… أوقفتهما على زوجتَّي، والبطن الأول وهم الأبناء والبنات والبطن الثاني…”.
محمد بن عبدالله الفريح؛ محرر وجامع الكتاب، معلوماتي كريم، لا يبخل عليك بمعلومة، معلومات خام (دسمة)، وليست كلام، يزودك بها دون تحفظ، دون استطراد، دون توكيد، دون توقيع منه، وقد اجاد كثيراً في جمع مادة الكتاب ووثائقه ومروياته، شخص دقيق في معلوماته، متخصص في مجاله، وأحد أعلام النشر في المملكة العربية السعودية.
ولعل الشيخ صالح لو اطلع على هذه السيرة ومحتواها وصورها ووثائقها (المنفتحة) لضرب بها مثلا على انفتاح أهل نجد، والأمر كذلك للدكتور غازي القصيبي رحمه الله.